تونس الخضراء... تبقى
نشر بتاريخ: 2021-07-29 الساعة: 19:30
ما كتب الرئيس محمود عباس "أبو مازن" إثر رحيل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي
- الرئيس السبسي استطاع أن يرسي قواعد الديمقراطية والحرية والسلام على ارض تونس
- غادرنا تونس بأجسادنا وظلت أرواحنا متعلقة بها
- كان السبسي يملك من الإمكانات والقدرة والحكمة ما يجعله يسير في البلد إلى الأمام، ويحول دون تدهورها
- كان الزعيم بورقيبة سابقاً لزمنه، ولديه الشجاعة لأن يقول ما يؤمن به، دون تردد، ولا يسأل عن المعارضة والمزاودين ومرددي الشعارات
- أحداث ما يسمى بالربيع العربي فتحت المجال لكل طامع وطامح ومتطلع إلى السلطة أن يسعى إليها. وهرول الإخوان من منافيهم مدعومين بكل القوة الخفية والمعلنة تؤيدهم للوصول إلى الحكم
- كان ينقص السبسي طاقم مثله، وفاهم مثله، وصاحب تجربة عميقة مثله، حتى يمسك معه بأطراف المسألة ويسيروا جميعاً بها، ويتبوأوا أركان الدولة التي كانت، والتي صارت بعهده. هذه المسألة تجعلنا نعاني من قلق متزايد ونحن ننتظر الأيام القادمة
لم يكن في مقام تلك القامة العالية ما يناسبها من الأقران والزملاء والإخوان في وداعها، فلقد عز الوفاء في هذا الزمن الرديء وندر. واختفت أو كادت نواميس القدماء، وأخلاق الرعيل الأول وتقاليد الأجيال.
في يوم الجمهورية، الخميس 25 /7/2019 أعلن في تونس رسمياً عن وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي الذي تولى الرئاسة بتاريخ 22/12/2014 في انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة، ورغم تقدمه في السن إلا أنه استطاع أن يرسي قواعد الديمقراطية والحرية والسلام على أرض تونس التي عانت كثيرا بعد رحيل الرئيس المنصف المرزوقي، الذي دعمته حركة النهضة الإخوانية، والذي لم يكن بمستوى المسؤولية ليكون على رأس تونس.
برحيل السبسي تنتهي مرحلة تتمتع البلد فيها بالازدهار والديمقراطية والحكمة العالية والواقعية، ولا أدري هل يمكن أن تعود هذه المرحلة مرة أخرى ومع من يمكن أن تعود.
يسود البلد هذه الأيام موجة من الانفلات والانقسام والتمزق، وتكاد تعود إلى الأيام الأولى بعد مغادرة الرئيس زين العابدين الذي اضطر إلى مغادرة البلاد إثر الأحداث التي انفجرت باسم الربيع العربي، وفتحت المجال لكل طامع وطامح ومتطلع إلى السلطة أن يسعى إليها. وهرول الإخوان من منافيهم مدعومين بكل القوة الخفية والمعلنة تؤيدهم للوصول إلى الحكم، إلى حكم بلد لم يعرف من قبل أفكار الإخوان ولم يعد يتقبلها ولم يؤمن بها. ولكن قيادات الغوغاء دفعتهم إلى مقدمة السلطة.
لكن الدولة العميقة التي أرساها ووضع أسسها الحبيب بورقيبة مؤسس تونس الحديثة، وراعي نهضتها وزعيم استقلالها، لم تترك الفرصة سانحة لهؤلاء لحكم هذا البلد. وما لبث أن تماسك رجال هذه الدولة وأبناء بورقيبة وأحباؤه وأعادوا الأمور إلى نصابها، وكان على رأسهم الباجي قائد السبسي، الأمين المخلص لأفكار الزعيم الذي نشرها على مدى عقود طويلة وهو قريب ومقرب من هذا الزعيم، حيث أسرع للإمساك بزمام الأمور، ولملمة العناصر المتناثرة هنا وهناك، وأنقذ ما يمكن إنقاذه، وجلس على سدة الرئاسة.
لقد جاء السبسي متأخراً وفي سن متقدمة جداً، ولكنه ورغم ذلك كان يملك من الإمكانات والقدرة والحكمة ما يجعله يسير في البلد إلى الأمام، ويحول دون تدهورها ويبعد - ما أمكن– العناصر الغريبة عن الشعب وتقاليده وعاداته وأفكاره التي تشربها في عهد الزعيم بورقيبة.
لقد أعاد السبسي تونس إلى الخارطة السياسية والدبلوماسية والاجتماعية بعد أن كادت تختفي وتصبح رقماً مهملاً في تعداد الدول المؤثرة في العالم، رغم الحصار الاقتصادي والسياسي الذي فرض عليها في الفترة الماضية، والذي كاد يقضي عليها.
كما استطاع أن يجنبها الفوضى العارمة التي اجتاحت الجيران، وبالذات ليبيا، التي تدفقت بكل مآسيها ومشاكلها وانهياراتها لتصب في ساحة تونس التي لا تحتمل ولا تستطيع أن تتقبل كل هذه السيول التي اندفعت نحوها.
ومع ذلك بقيت تونس صامدة صابرة لا تشكو ولا تئن تحت وطأة الضربات المتتالية القادمة من هذا البلد الذي تفكك وأصبح دولة فاشلة بكل ما تعنيه هذه الكلمة.
وانطلق السبسي في العالم يثبت حضوره ووجوده في كل محفل محلي أو إقليمي أو دولي، الأمر الذي جعله يعيد النضارة والحيوية إلى بلده رغم كل الظروف المحيطة.
لم يساعده من حوله، ولم يرتقوا إلى المستوى الذي يطلبه ويسعى إليه، وكانوا عوامل تعطيل وتهديم أكثر من كونهم عوامل بناء ونهضة، والسبب أنهم لم يمتلكوا بعد الرؤية التي امتلكها، ولا الحكمة التي تمتع بها، ولا قراءة التاريخ والمستقبل التي قرأها وتفهمها وعرفها عن قرب، سواء ما تعلمه من المعلم الأول بورقيبة، أو من خلال تجاربه الشخصية العميقة والطويلة التي مارسها وأتقنها وراح ينفذها بكل اقتدار وشجاعة، ولكن كان ينقصه طاقم مثله، وفاهم مثله، وصاحب تجربة عميقة مثله، حتى يمسك معه بأطراف المسألة ويسيروا جميعاً بها، ويتبوأوا أركان الدولة التي كانت، والتي صارت بعهده. هذه المسألة تجعلنا نعاني من قلق متزايد ونحن ننتظر الأيام القادمة. ليس لأن تونس بلد عربي ومسلم فحسب، بل لأنها بلد تستحق كل الخير والاحترام والتقدير لتجربتها الفذة وتاريخها النظيف، تونس تستحق كل هذا لأنها أيضاً حبيبة فلسطين ونصير فلسطين وحاضنة فلسطين، ولم يأت منها لفلسطين ولم يخرج عنها لفلسطين إلا كل الخير والاهتمام والدعم الكامل وبلا مقابل.
على مدى مئات السنين، تعود أهل شمال أفريقيا وهم في طريقهم لأداء الحج أو العمرة، أن يتوقفوا في فلسطين لزيارة الأقصى، حيث يعتبرون أن حجتهم لا تكتمل إلا بالتقديس في الأقصى، ويمكثون فترات تطول وتقصر حسب الظروف التي يمرون بها، وبعضهم يستقر في أرض فلسطين، طلباً للعمل أو لحياة أفضل ويصبحون من أهل البلاد، ويستقرون فيها. ولذلك نلاحظ إلى الآن انه في كل قرية أو مدينة يوجد حي صغير أو كبير يسمى حي المغاربة، وأبرز هذه الأحياء حي المغاربة في القدس الذي دمرته إسرائيل بعد احتلال 1967. ولكن بقي الناس هنا، وهذا أدى إلى تمازج الحضارات واختلاط العائلات إلى درجة التوحد، ولم يبق إلا اسمهم "المغاربة"، اسم الحي الذي يسكنونه وهو "حي المغاربة". وما زال هؤلاء، وهم من المغرب والجزائر وتونس وليبيا، محافظين على جذورهم الأصلية. ولكنهم فلسطينيون بكل ما في هذه الكلمة من معنى، ولا أحد يتذكر أصولهم، بل نحن نفتخر بوجودهم في فلسطين، حيث إنهم جزء من هذا الشعب.
وهناك كثيرون ومن شعوب أخرى وأقطار أخرى جاءوا واستقروا بفلسطين وأصبحوا جزءاً من هذا الشعب، لأن فلسطين بالنسبة للمسلمين بشكل عام هي ارض مقدسة يفضلون العيش والاستقرار فيها.
احتلت فرنسا تونس عام 1912 من القرن الماضي، وأبقت على المندوب التركي "الباي" في موقعه الشكلي، على أساس انه رأس السلطة، ولكن بدون صلاحيات أو مهام، إلا وجوده في البلد. إلا أن الاحتلال أو الانتداب موجود بشكل فعلي، كما هو موجود في المغرب والجزائر أما ليبيا فقد كانت تخضع لنفوذ ايطاليا، وإن كان على رأسها ملك هو "السنوسي".
وخرج من بين الشعب التونسي شاب يعمل محامياً، مليء بالحماسة والوطنية، ومشتعل بالأمل لتحقيق الاستقلال والتخلص من الانتداب الفرنسي وهو الحبيب بورقيبة، الذي رفع لواء تحرير البلاد، وراح يجوب العالم ليحشد التأييد والدعم لقضيته العادلة، وتحمل في سبيل ذلك السجن والإبعاد والطرد وكل صنوف الاضطهاد، من أجل استقلال بلده.
كان بورقيبة خطيباً مفوها، وزعيماً فريداً لديه الشجاعة والإرادة وحب الوطن، وجمع حوله كوكبة من الشباب التونسي الذين ساروا معه وخلفه لتحقيق هدفهم الوطني.
لا أريد أن أخوض كثيراً في مراحل نضاله، ولكنني أريد فقط أن أعرج على رحلة له إلى القاهرة حيث وصلها من أجل أن يعرض قضيته على رجالات وزعامات مصر، وكذلك على الزعامات العربية التي تتواجد هناك. كان في مصر وحيداً غريباً لا يعرفه أحد، ولا يعرف أحد شيئاً عن قضيته.
وقبل أن يستقر فيها سمع أن له أقارب في فلسطين يسكنون مدينة عكا، واسم العائلة "أبو رقبة".
فقام بزيارتهم زيارة خاطفة وذلك من أجل أن يتعرف عليهم، وقفل عائداً إلى القاهرة ليبدأ نشاطه السياسي والإعلامي، ولكن لم يعرف كيف يبدأ ومن أين يبدأ.
التقى في فندق "أطلس" بزعيم فلسطيني مرموق ومعروف، وهو محمد علي الطاهر، وهو من مدينة نابلس، فتعاطف هذا الرجل معه، ووقف إلى جانبه، وراح يعطي النصائح في التعرف بالشخصيات المصرية والعربية. وقدمه إلى الكثيرين منهم وطلب من الجميع أن يفهموا قضيته، وأن يناصروه كإنسان مناضل عربي قادم من شمال أفريقيا – تونس-، ويحمل على كاهله مسؤولية ضخمة وهي العمل من اجل تحرير بلده.
وحيث إن محمد علي الطاهر صاحب قضية، فقد أبدى كل اهتمام بصاحب القضية القادم من شمال أفريقيا، وجند نفسه وأصدقاءه ومعارفه من أجل خدمته وتسهيل مهمته وإنجاحها.
في عام 1974، زرت تونس لأول مرة واستقبلني المرحوم الرئيس الزعيم الحبيب بورقيبة، وحدثني عن محمد علي الطاهر وعن دوره في مساعدته في القاهرة. وقال لي إنه بعد أن أعلن الجمهورية في تونس استدعى الطاهر ليزوره ويرد له بعض الجميل، وقدم له الجنسية التونسية، له ولعائلته كنوع من العرفان بالجميل. وكدليل على التآخي الفلسطيني-التونسي في أيام الكفاح، كان بورقيبة يتحدث بكل الزهو والافتخار، وهو يأتي على ذكر محمد علي الطاهر، ويعتبره رجلاً من رجالات النضال التونسي، كما هو زعيم من زعماء العمل الفلسطيني.
كانت تلك الجلسة مع الزعيم بورقيبة تاريخية، حيث تحدثنا عنه في كثير من الأمور السياسية والتاريخية الهامة، وكان يحضر معنا السيدة الفاضلة الماجدة وسيلة بورقيبة، وهي من أفضل النساء المناضلات والسياسيات اللواتي عرفتهن في حياتي. وهي في نفس الوقت مليئة بالحماسة للدفاع عن القضية الفلسطينية، وأكاد أجزم أنها شريك فعال في القرار السياسي التونسي، بخاصة وأنها مطلعة وبشكل دقيق ليس فقط على الوضع الداخلي التونسي، وإنما مطلعة وبشكل مفصل على الوضع العربي والدولي كله.
في مدينة بيرزيت مدرسة باسم السيدة الوسيلة، وفي أريحا شارع هام باسم الرئيس الحبيب بورقيبة.
ولكل من الأمرين قصة هامة، سأذكر قصة المدرسة، وبعد ذلك ومن خلال السياق سأذكر قصة الشارع.
في السبعينيات من القرن الماضي خطرت ببالي خاطرة، وهي أن نقوم بإنشاء توأمة بين المدن الفلسطينية والمدن العربية، واخترت سبع عشرة مدينة فلسطينية لتكون توائم مع مثيلاتها في الدول العربية. وبالفعل استجابت كل الدول التي طلبنا ذلك منها، واستعدت هذه الدول أن توعز لمدنها بتقديم دعم سنوي لقريناتها الفلسطينيات، وكانت القدس وغزة من نصيب السعودية، أي توائم مع مكة والمدينة. وكان الأمير فهد ولياً للعهد، حيث قدم أول دفعة بعشرة ملايين دولار للقدس ومثلها لغزة. وأضاف خمسة ملايين لجامعة النجاح ومثلها لجامعة بيرزيت.
أما التوأمة مع بيرزيت المدينة، فكانت من نصيب تونس. وهكذا فعلت كل الدول التي توجهنا لها، وكل منها اختارت بلداً وأجرت أو عقدت التوأمة معها.
وبدأت الاتصالات بين الأطراف المعنية بشكل مباشر، وراحت كل دولة تدفع ما يمكن للمدينة التي اختارتها.
وهكذا بدأ تنفيذ المشروع، حيث استفادت المدن المعنية من الدعم الذي يأتيها من أقرانها من الدول العربية. والغريب أن بعض أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة هاجموا المشروع بشدة واعتبروه عبثياً، ويجب أن يتوقف، والسبب الرئيس انه لم يأت عن طريق لجنته.
والغريب أيضاً أنه في عام 1978 عقدت قمة بغداد، فقررت القمة إيقاف المشروع واستبداله بمبالغ مقررة من قبل القمة. وهكذا فقد ألغي المشرع ولم يدفع العرب شيئاً بديلاً له.
جميع الدول العربية توقفت عن الدفع وألغت المشروع، إلا الجمهورية التونسية التي استمرت على تواصل مع مدينة بيرزيت، تدفع لها المبالغ بانتظام، وقد كانت تجمع هذه المبالغ من بعض مؤسساتها، ثم ترسلها إلى مدينة بيرزيت. واستمر ذلك إلى سنوات طويلة بعد انقطاع الدفع العربي. ولم يلتفتوا إلى القرار العربي، وإنما استمروا بالقيام بهذا الجهد المتواضع، ولكنه مبارك لأنه يأتي من دولة فقيرة مصممة على الاستمرار.
وعرفاناً بالجميل التونسي فقد بادرت بلدية بيرزيت إلى تسمية إحدى مدارسها باسم الماجدة وسيلة بورقيبة. كما قامت السلطة بتسمية مدرستين في قطاع غزة، إحداهما ثانوية والثانية ابتدائية، أيضاً باسم الوسيلة الماجدة بورقيبة.
وفي نفس الجلسة التاريخية مع الزعيم بورقيبة عام 1974 حدثني عن زيارته التاريخية إلى أريحا، وقال لي إنه زار قبل ذلك وهو في طريقه إلى أريحا، الرئيس جمال عبد الناصر، وأبلغه بأنه سيتحدث علناً عن آرائه في الدعوة لقبول قرار التقسيم، لأنه الطريق الوحيد للوصول إلى حل للقضية الفلسطينية.
وجرى حوار مطول بين الزعيمين اقتنع فيه عبد الناصر بآراء الزعيم بورقيبة، ولكنه قال له إنه يخشى من الإعلام العربي أن يتصدى له ويهاجمه. فقال بورقيبة: لا يهمني الإعلام العربي ولكن ما يهمني هو الإعلام المصري، فأكد عبد الناصر بأن الإعلام المصري سيلتزم الصمت، ولن يتطرق إلى أي هجوم عليه فقال بورقيبة: اكتفي بهذا. وعندما وصل بورقيبة وتحدث بشكل علني عن آرائه، تصدى له الناس هناك وهاجموه بشراسة.
جرت زيارة بورقيبة للقدس وأريحا هذه في 3 مارس1965 حيث ألقى خطابه الشهير الذي انتقد فيه استغلال العرب للقضية الفلسطينية، وطالب بانتهاج سياسة المراحل وقبول قرار التقسيم رقم 181.
لقد كان بورقيبة سابقاً لزمنه، وكانت لديه الشجاعة لأن يقول ما يؤمن به، ويعتقد انه الصحيح دون تردد، ولا يهتم أبداً بما يقال عنه، ولا يسأل عن المعارضة والمزاودين ومرددي الشعارات.
تحدثت معه عن رؤيتي وعما أفكر به في ذلك الوقت، وبخاصة عن العلاقات مع اليهود، وأسباب هجرتهم والهجرة المعاكسة وضرورة المعرفة التامة للمجتمع الإسرائيلي، فاستغرب هذا الحديث الذي يسمعه لأول مرة من فلسطيني أو أي عربي، فقال لي ضاحكاً:" أنت بورقيبة فلسطين". منذ ذلك الوقت والرئيس السبسي يكررها في كل مكان، ومع كل من كان يستقبله من الفلسطينيين، لأنه معروف عنه أنه أكثر القادة التونسيين إيماناً بسياسة بورقيبة ودفاعاً عن هذه السياسة.
مهما حاول البعض أن يسيء للحبيب بورقيبة بعد تنحيته عن الحكم، ووصول الإسلاميين وسيطرتهم على البلاد، فإن أحداً لا يمكن أن يفصل تونس عن بورقيبة، لأنه اسمها ارتبط به، وعرفه الناس من خلال نضاله، ومن خلال فترة حكمه الطويلة التي أرسى فيها تقاليد وأفكارا ما زالت إلى يومنا هذا، ولا يستطيع أحد أن يمحوها من ذاكرة هذا الشعب العظيم، أو ينكر دور هذا الزعيم في إحياء اسم تونس واستقلالها والحفاظ عليه عقوداً من الزمن.
في عام 1980 عقدت في المغرب قمة عربية، اتفق فيها الزعماء على الاتصال بالدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. وكلف المرحوم الملك الحسن، كما كلف المرحوم الملك حسين برئاسة وفد إلى كل من روسيا والصين. وكلفت أن أرافق الملك حسين مع عدد من وزراء الخارجية العرب، وكان من ضمنهم الباجي قائد السبسي. وكانت بالنسبة لي فرصة عظيمة أن أتعرف أكثر على الوزير السبسي، وأطلع على أفكاره وآرائه، ومنذ ذلك الحين توطدت العلاقات بيننا أكثر فأكثر، وبنينا صداقة شخصية إلى حين رحيله رحمه الله. ومنذ ذلك الحين لم تنقطع اللقاءات بيننا، سواء أكان في الحكم أم خارجه، فقد أعجبت كثيراً بشخصيته، وعقليته المنفتحة، وواقعيته النابعة من تجربة طويلة، ومن خبرة استقاها من الحبيب بورقيبة الذي يعتبره مثله الأعلى، وكذلك شخصيته التي يتمتع بها والتي تقوده إلى هذا المجال.
كانت جلستي مع الرئيس بورقيبة تاريخية تحدث فيها في مواضيع مختلفة وبانفتاح تام وبأريحية، وكانت بداية لعلاقة فيها كثير من الاحترام والتقدير، وقد فتحت أمامي الأبواب جميعها للقاء مع العديد من القيادات التاريخية سواء في الحكومة أو في الحزب أو باقي المؤسسات في تونس.
اعترف أنني اكتشفت بلداً عربياً من نوع آخر يختلف عن غيره، وله مواصفات مختلفة ويستطيع الإنسان أن يعتمد عليه، وبطبيعة الحال وغني عن القول بأن ما يسود البلد هو سياسة وأفكار بورقيبة الموغلة في الواقعية والبعيدة كل البعد عن الشعارات التي يرفعها الكثيرون دون أن يعنوا ما يقولون.
كنت كثيراً ما اشعر أن هذا النظام غريب عن مجتمعنا العربي الذي تعودنا أن نتعامل معه، وهو بهذه المواصفات يعيش شبه منعزل عن بقية الأنظمة.
بدأ الاجتياح الإسرائيلي للبنان بتاريخ 6/6/1982، بعد يوم واحد من محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن، والذي قام باغتياله "أبو نضال".
ومعروف أنه كانت هناك هدنة رسمية بيننا وبين الإسرائيليين في جنوب لبنان. وأعلن شارون انه لن يلتزم بالهدنة حتى لو أطلقت النار على إسرائيلي في لندن.
فكان أن أطلقت النار على السفير الإسرائيلي في لندن، وكانت حجة لشارون لاجتياح لبنان لأغراض أخرى، وهي التخلص من منظمة التحرير في كل الأراضي اللبنانية. ولهذا فقد زجت إسرائيل بهذه الحرب قوات ضعف ما حشدته في حرب تشرين عام 1973، وهذا يفسر الهدف الذي سعت إليه إسرائيل من وراء هجومها هذا.
لم يكن هذا الهدف معروفاً إلا بعدما توغلت القوات الإسرائيلية في جبل لبنان، وصولاً إلى تطويق مدينة بيروت ومحاولة احتلالها. إلا أن صمود القوات الفلسطينية وحلفائها اللبنانيين حال دون الاحتلال، رغم طول مدة الاجتياح التي استمرت سبعة وثمانين يوماً، وهي أطول حرب جرت بين إسرائيل والعرب منذ حرب عام 1948.
بعد وقت غير طويل من الزمن، عرفت أن الحرب لن تنتهي إلا بأحد أمرين إما القضاء على القيادة الفلسطينية جميعها في لبنان أو اعتقالها، أو انتقالها إلى دمشق.
ما حلم به شارون وهو اعتقال ياسر عرفات والقيادة في شبكات إلى إسرائيل لم ينجح ولم يتمكن من ذلك، وقتلهم أيضاً لم يكن متاحاً بسبب المقاومة الشرسة التي أبدوها. وبقي الخيار الأخير، وهو نقلهم إلى دمشق وتوزيع القوات في العديد من الدول العربية. وكان هذا نتيجة للوساطات الأميركية. إنما الهدف الأساس من كل هذه العملية هو إنها الوجود الفلسطيني العسكري والسياسي في لبنان، كان الوضع العربي حيادياً. وكان الأميركان يلعبون دور المايسترو في هذه العملية، حيث يقومون بالترتيبات والتوزيعات كما يريدون.
في هذا الوضع المظلم، وصل إلى دمشق الوزير التونسي المنجي الكعبي، يحمل شيكاً بمبلغ خمسة ملايين دولار كمساعدة من الحكومة التونسية، مع الاستعداد لتقديم أية خدمات تستطيع تونس أن تقدمها.
في أواخر أيام الحرب، تم الاتفاق على أن تنتقل القيادة إلى دمشق ويتم التوزيع للقوات حسبما ذكرت سالفاً.
هنا خطرت ببالي خاطرة، وهي أن اطلب من تونس أن تستقبل أبا عمار، ومعه عدد من قيادات فتح. وأبلغت بذلك الأخ حكم بلعاوي، الذي عاد لي بعد اقل من ثمان وأربعين ساعة بجواب ايجابي، وان الحكومة التونسية ترحب بهم جميعاً. ثم طلبت منه طلباً آخر، وهو انه يمكن أن يكون مع قيادة فتح عدد من قيادات المنظمات الفلسطينية. فجاء الجواب سريعاً: نرحب بهم جميعاً.
لم أعلن الخبر، وأبقيته سراً لا يعرف به أحد، وفي هذه الأثناء بدأت القيادات تغادر بيروت باتجاه دمشق. وصل العديد منهم، بل يكاد الجميع أن يكون قد وصل.
هنا طلبت من أبي عمار ألا يحضر إلى دمشق، بل أن يغادر إلى أثينا وينتظر هناك.. وبعدها أرسلت له رسالة بأن طائرة تونسية ستأتي إلى أثينا لتنقله إلى تونس لتكون مقر إقامته، كان أبو عمار سعيداً بهذا الخبر.
بعد ذلك فسرت له الأمر، ولماذا استأجرت بيتاً في تونس، ولماذا طلبت من تونس أن تستضيفنا؟ وقلت: عندما اشتد الحصار عليكم عرفت أن النتيجة إما قتلكم جميعاً أو اعتقالكم، ولذلك طلبت من تونس أن تستضيفنا لنكون بعيدين عن النفوذ السوري ونتمتع بكثير من حرية الرأي والحركة، ولن نكون خاضعين لأي نظام.
في فندق "سلوى" القريب من العاصمة التونسية، والذي خصصته الحكومة التونسية لإقامتنا، بدأنا عملنا المعتاد ونشاطنا. والكثير من قصيري النظر استهزأوا بنا وظنوا أننا انتهينا وان من بقوا في دمشق سيقودون الثورة والكفاح المسلح من "خطوط التماس"، ولم يخطر ببالهم أننا سنكون اقرب لخطوط التماس ونحن في تونس منهم، وهم يجلسون بالقرب منها، لأن المسألة إنما هي مسألة إرادة وقدرة، ولن يتاح لهم، ولن يسمح لهم القيام بأي عمل مهما كان قربهم من هذه الخطوط.
في مدينة بنزرت التونسية استقبل أبو عمار وإخوانه جميعاً من قبل الشعب التونسي والمسؤولين التونسيين، وعلى رأسهم الماجدة الوسيلة بورقيبة، استقبال الأبطال وبكل الترحيب والاحترام، استقبلوا ليس كضيوف وإنما كأبناء بلد لهم كل الاحترام.
يستغرب البعض أنني كنت أسعد الناس بخروجنا من لبنان وانتقالنا إلى تونس لأنه بات قرارنا المستقل قراراً فعلياً ومجسداً وقادرين على تنفيذه دون تدخل أحد.
أما الباقون فكانوا يتباكون على خط التماس مع العلم أن هذا الخط لم يخترق، ولم يسمح لنا أن نخترقه منذ عقود طويلة، وان أولئك الذين رفضوا الذهاب إلى تونس يقيمون هناك، ولكن اسألهم ماذا يفعلون..وما هو نوع الكفاح الذي يمارسونه؟ انه كفاح البيانات والشعارات، واعتقد أن هذا هو المطلوب من كثير من الأنظمة التي لا تريد أكثر من هذا لأنها ترتاح لهذا الوضع.
بعد فترة قصيرة شعر الجميع بأنهم قد أفشلت مخططاتهم، وإن الانشقاق قد ذهب إلى مزابل التاريخ، وانه لا خيار لهم إلا أن يلتحقوا بالركب، وهكذا لحق بنا الجميع إلى تونس، كما لحقوا بنا إلى المجلس الوطني واللجنة لتنفيذية. وكما قلت فقد رحبت تونس بالجميع وقدمت لهم كل التسهيلات والمساعدات اللازمة، بل أكثر بكثير مما يخطر ببالهم أو ببالنا.
استقبلت تونس كل القيادات التي أحبت أن تعيش في تونس سواء بشكل دائم أو بشكل مؤقت، كما استقبلت عدداً هاماً من القوات الفلسطينية التي رحلت من لبنان.
تمتعنا في تونس بحرية الحركة وحرية الرأي وحرية الموقف، حيث لا قيود ولا حدود ولا سؤال ولا استفسار ولا تدخل من قريب أو بعيد.
ندخل البلد متى شئنا، ونغادرها متى شئنا، ونحضر أي ضيف نريد ان نراه أو نجتمع به أياً كان ومن أي بلد كان، حتى أننا كننا نحضر أناس من كل الاديان والاتجاهات، ولم نسمع تحفظاً أو اعتراضاً أو ملاحظة مرة واحدة في حياتنا هناك.
ووفرت تونس كذلك لنا حماية شخصية وعامة كاملة، بحيث أن بيت كل مسؤول تحرسه الشرطة التونسية، ومع كل مسؤول سيارة امن تونسية، لنا مندوب في المطار يشرف بنفسه على دخولنا وخروجنا، نحن وكل ضيوفنا، وليس بحاجة لاستئذان مسبق أو إعلام لاحق عن عمله مهما كان هذا العمل. كل اجتماعاتنا ولقاءاتنا الداخلية والخارجية والفلسطينية وغير الفلسطينية لا تحتاج إلى إذن أو موافقة أو حتى إشعار. استقبلنا مختلف قادة العالم ووزرائه ومسؤوليه على أرض تونس، وليس من الضروري أن يلتقوا مع المسؤولين التونسيين وإنما يأتون إلينا فقط، للحديث معنا أو التشاور أو النقاش، وأبواب تونس دائماً مشرعة بكل حرية لهم.
لا يوجد بلد عربي واحد قدم لنا الامتيازات والمساعدات والتسهيلات كما فعلت تونس. وللإنصاف فقد تم كل هذا في عهد الرئيس بورقيبة. واستمر كما هو في عهد الرئيس زين العابدين بن علي. إلا انه لم يكن من الرئيس فقط أو من أركان حكومته، فحسب بل انه من الشعب التونسي كله. لأن التعامل مع فلسطين ما هو إلا ثقافة أرساها بورقيبة وتشبع بها الشعب نفسه في كل مكان، وفي كل ركن من أركان هذه الجمهورية الفريدة.
كانت ملاحظة عامة في كل البلاد إذا ركب فلسطيني التاكسي ينتقل من مكان إلى آخر وعرف السائق انه فلسطيني يرفض أن يأخذ منه الأجرة، واذا اشترى شيئاً من حانوت وعرفه البائع انه فلسطيني يرفض انه يأخذ منه ثمن ما اشترى لأنه فلسطيني.
وهذا التصرف ينطبق على آلاف الفلسطينيين الذين وفدوا إلى تونس وينطبق على كل تونسي أيضاً.
لم تكن هذه المواقف مستغربة على تونس، وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على اهتمام تونس بما يجري في الشرق العربي، وهي بعيدة جغرافياً عن المنطقة لم يسبق لها أن أدلت بدلوها في المشاكل التي تحصل هنا.
وأما أن الأمر يعني الفلسطينيين فلم يرد الحبيب بورقيبة أن يبقى ساكتاً وبعيداً، وإنما أصر على أن يقوم بما يوجبه عليه وضعه وبما يتمتع به من الواقعية والإحساس الوطني العالي. ولم يترك المنطقة إلا بعد أن هدأت النفوس واستقرت الأوضاع.
في قمة بغداد التي عقدت للرد على الرئيس السادات ومنعه من توقيع اتفاق كامب ديفيد، ارسلوا له وفداً ليتكلم معه قبل أن يأخذوا أي قرارـ إلا أن الرئيس السادات رفض الاستماع أو الاجتماع بالوفد.
فصدر قرار من القمة بمقاطعة مصر ومن ثم نقل الجامعة العربية من القاهرة إلى أي بلد عربي آخر. وهنا كان لا بد لهم من اختيار بلد لا يدخل الأحلاف الصغيرة ولا ينحاز لهذا البلد أو ذاك، ووقع الاختيار على تونس. وهنا قدم الأمين العام المصري الجنسية محمود رياض استقالته، وكان لا بد من اختيار أمين عام بديل، فوقع الاختيار على الشاذلي القليبي ليتولى هذه المهمة، وهو من رجالات تونس التاريخيين، وكان يعمل مستشار الرئيس بورقيبة ووزيراً للديوان.
وقامت تونس بالمهمة على أكمل وجه، كما كان القليبي رجل دولة ناجحاً استطاع في ظل هذا الجو العربي المتلاطم أن يقود السفن العربية إلى بر الأمان سنوات عديدة، إلى أن تمت المصالحة مع الرئيس مبارك، وعادت الجامعة إلى القاهرة.
كان العرب قد بنوا مبنى للجامعة في تونس، وعندما انتقلت الجامعة إلى القاهرة قال التونسيون: "هذا المبنى للعرب ولكم أن تتصرفوا به كما تريدون".
رفضت تونس أن تستعمل المبنى قبل أن يقرر العرب مجتمعين ماذا سيفعلون به، وأخيراً جاء جوابهم بأنه هبة لتونس تستعمله كما تريد.
في بداية مرحلة إقامتنا في تونس أعلن في دمشق عن الانشقاق في فتح وكذلك أيد هذا الانشقاق عدد من التنظيمات بما في ذلك عدد قليل من اعضاء اللجنة التنفيذية، الأمر الذي جعل هذه اللجنة على وشك الانهيار وفقدان النصاب.
وكان لابد من عقد المجلس الوطني حتى نتمكن من ترميم اللجنة التنفيذية قبل أن تنهار. ولم نجد إلا الأردن ليقبل عقد المجلس على أرضه، وهكذا وفي عام 1984 عقدناه بعد أن قاطعه كثير من الأعضاء، حيث وجدنا صعوبة في تأمين النصاب لعقده، وبعد بذل جهود خارقة تمكنا من إحضار العدد المطلوب للنصاب بزيادة عضوين فقط.
ولكن أما وأن النصاب قد حصل، فقد تم اختيار لجنة تنفيذية جديدة خالية من كل هؤلاء، بالإضافة إلى تغيير رئاسة المجلس الوطني، وهكذا نجحنا في انعقاد منظمة التحرير، وفشلت جهود الآخرين في إنهاء وإسقاط المنظمة.
وبعد نجاحنا في تخطي هذه المرحلة الخطيرة، وهذا يعود الفضل فيه إلى تونس الحاضنة لنا، والتي أعطتنا الحماية الكاملة، ولكن وفي نهاية 1986 نجحنا في تحقيق عودة هؤلاء إلى حضن المنظمة وبالذات عادت الجبهة الشعبية والديمقراطية والحزب الشيوعي، ولحقتهم باقي المنظمات الصغيرة.
هذا الأمر مهد لعقد المجلس الوطني التوحيدي في العام 1987. واكرر بأننا لو لم نكن في تونس، ونتمتع بحرية القرار، لما تمكنا أن نفعل شيئاً.
من هنا يجب أن نبقى إلى الأبد ممتنين لتونس وقيادتها التي لولاها لما فعلنا شيئاً وبقينا نراوح في مكاننا سنوات وسنوات.
لم يكن مجلس 1987 آخر المطاف، بل هو احد البدايات الهامة في تاريخ نضالنا، فبعد سنة من ذلك التاريخ، عقدنا مجلساً آخر في الجزائر أيضاً، وكانت له نكهة أخرى، بل كان محطة في منتهى الأهمية، بل هي محطة مفصلية في تاريخ نضالنا الفلسطيني. إنه المجلس الوطني الذي عقد في 15/11/1988 في الجزائر.
في هذه الدورة الفاصلة التاريخية تم أمران هامان، أولهما إعلان قيام الدولة الفلسطينية في المنفى، والثاني الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية، وهذا يعني دخولنا في النادي الدولي، وهذا ساعدنا على الحصول على أكثر من ثمانين اعترافاً من الدول، والاهم أن أميركا فتحت حواراً ولأول مرة معنا، ولما تم ذلك وكان في بداية عهد بوش الأب ونهاية عهد الرئيس ريغان، اجتمع الاثنان ووزير خارجيتهما وأعلنا القبول بفتح حوار مع منظمة التحرير الفلسطينية.
وهنا جن جنون حكومة إسرائيل، وأعلنت رفضها لهذا الموقف، وعدم قبولها به. ولكن الإدارة الأميركية قالت لها: عليك الصمت التام وهذا ليس شأنك..فصمتت.
كان عدد المجلس الوطني في ذلك الوقت 736 عضواً. وافق على القرارات 700. هذا عنصر واحد من عناصر قوتنا لوجودنا في تونس. وهذا من أهم نتائج هذا الوجود.
بدأ الحوار الأمريكي الفلسطيني في تونس، وفي دار السفارة، ولم نسمع يوماً من التونسيين سؤالاً عما يجري في السفارة على أراضيها، وإذا لم نبادر بالحديث لهم عما يجري مع الأمريكان، فلا أحد يبادر بالحديث عن هذا الموضوع، لأنهم يعتبرونه شأناً خاصاً بنا، لا علاقة لهم به.
هذا النمط من التعامل يسجل فقط لتونس طيلة السنوات التي قضيناها على أرضها ومع شعبها كله، ومع حكامه ورجالات السياسة والإدارة فيه.
مهما فعلنا ومهما تحدثنا فلن نستطيع أن نكافئ هذا الشعب العظيم على تعامله مع شعب فلسطين وقيادة فلسطين.
كانت إسرائيل تعرف أن خطوط التماس هادئة، وربما كانت لديها ضمانات بهذا الهدوء، ولذلك كانت مطمئنة تماماً لمناضلي الكلمة والشعار. ولكن أن يبقى العمل مستمراً من أماكن مختلفة وبتعليمات من تونس فهذا أمر لم يخطر على بالها. إلى أن حصل أكثر من مرة وبعمليات حادة ومؤذية، ولذلك كان لا بد من الرد ولو كانت الأهداف في تونس، لأن إسرائيل لا يمكن أن تسكت على هذا العمل الذي لم يتوقف، وكأنها لم تستفد شيئاً من إجلائنا عن أراضي لبنان، رغم وجود هدنة رسمية بيننا وبينهم برعاية الرئيس الأميركي ريغان، وبوساطة الأمير فهد بن عبد العزيز ولي عهد السعودية.
ونذكر أنه في فترة ما، أي في عام 1974 قامت إسرائيل بإرسال مجموعة من رجالها إلى بيروت اغتالت ثلاثة من قادة فتح وهم، أبو يوسف النجار، وكمال عدوان وكمال ناصر. وكانت تقصد من وراء هذه العملية إيقاف العمل ضدها من لبنان، ولكن هذا لم يؤد إلى نتيجة، إذا استمر العمل إلى أن وقعت الهدنة التي أشرت إليها.
وكذلك ظنت إسرائيل أن إبعادنا عن لبنان، وعن خطوط التماس، سيوقفنا عن العمل ضدها، ولكن هذا أيضاً لم يجد نفعاً، ولم يغير في الأوضاع شيئاً، واستمر العمل ضدها.
لقد قامت إسرائيل بعمليتين منفصلتين وبارزتين في تونس، حيث أرسلت في الأولى مجموعة من الكوماندوز وقامت باغتيال الشهيد أبو جهاد، رمز المقاومة الفلسطينية والمسؤول الأول عن العمليات الفدائية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وهذا دليل على أن العمليات التي نفذت في إسرائيل كانت مؤلمة لهم لكي يقطعوا كل هذه المسافة، وينزلوا على شواطئ مدينة تونس، ويتوغلوا في أحيائها للوصول إلى بيت أبو جهاد ويقوموا باغتياله.
لقد اعتبرت تونس أن هذا العمل موجه لها، واهانة لكرامتها الوطنية، فأقامت الدنيا ولم تقعدها احتجاجاً واستنكاراً وغضباً. وفي نفس الوقت لم توجه لنا بأي لوم أو حتى تنبيه على الأعمال التي يقوم بها رجالنا من أرضها. وقد وقع هذا الحادث يوم 16/4/1988، أي قبل أشهر قليلة من عقد المجلس الوطني في الجزائر، المجلس لذي أشرت إليه واعتبرته مفصلاً سياسياً هاماً في تاريخ العمل الفلسطيني، وفيه افتقدنا الشهيد أبا جهاد، لأنه ولأول مرة يغيب عن المجالس الوطنية.
والمعروف أن " أبو جهاد" هو أول من مثل فتح في الجمهورية الجزائرية في العام 1963، أي قبل إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية.
في 1/10/1985 كانت العملية الأولى ضدنا في تونس، والتي سبقت عملية اغتيال "أبو جهاد" ثلاث سنوات، وقد أطلقت إسرائيل عليها اسم "عملية الساق الخشبية"، وهو الاسم الحركي الذي أعطي لغارة السلاح الجو الإسرائيلي التي وقعت يوم 1 اكتوبر 1985 ضد مقر القيادة العامة لمنظمة التحرير الفلسطينية في حمام الشط بتونس، استهدف خلالها سلاح الجو الإسرائيلي احد أهم اجتماعات منظمة التحرير الفلسطينية، موقعاً عشرات الشهداء من التونسيين ومن القيادات الفلسطينية السياسية والعسكرية. وكانت عملية حمام الشط إحدى اكبر واخطر العمليات بحق الفلسطينيين، بعد نزوح منظمة التحرير الفلسطينية من العاصمة اللبنانية، بيروت سنة 1982، ليتمكن جهاز المخابرات الإسرائيلية (الموساد) من تعقب أحد الاجتماعات الهامة في مقر المنظمة في تونس،حيث قامت 8 طائرات من سلاح الجو الإسرائيلي صباح الأول من أكتوبر 1985، بقصف مقر منظمة التحرير الفلسطينية في ضاحية حمام الشط بتونس، بوابل من القنابل، وهو ما أدى إلى سقوط 68 شهيداً وأكثر من 100 جريح من فلسطينيين وتونسيين، إضافة إلى تدمير المقر بالكامل وبعض منازل المدنيين في المنطقة.
بعد اجتياح الكويت عام 1990، دعت كل من أميركا وروسيا إلى مؤتمر دولي يعقد في مدريد لبحث قضية الشرق الأوسط، وكنا في هذا المؤتمر جزءاً من الوفد الأردني، ثم بعد ذلك، وبعد أن انتقل الحوار إلى واشنطن، أجرينا مفاوضات "الكوريدور" التي تم فيها فصل الوفد الأردني عن الوفد الفلسطيني، واستمر الحوار حتى عام 1993. وفي أوائل هذا العام، أجرينا مفاوضات سرية في أوسلو مع الحكومة الإسرائيلية استمرت ثمانية أشهر، وكانت مفاوضات سرية أثمرت الاتفاق المعروف باتفاق أوسلو.
خلال المفاوضات السرية التي استمرت حوالي ثمانية أشهر، لم يطلع احد عليها لان أي تسريب لأخبارها سيؤدي إلى تدميرها، حيث إن الكثيرين لا يريدون لنا أن نقوم بهذه المفاوضات وبشكل مباشر مع إسرائيل.
كان لا بد أن نطلعهم على ما يجري بخاصة، وأن الأمر يتم على أرضهم، وفي نفس الوقت فان لدينا ثقة مطلقة بأنهم لن يسربوا الأخبار لأية جهة مهما كانت، وليست لديهم مصالح خاصة تتناقض مع مصالحنا، وليس لها مطامع في القضية الفلسطينية إلا ما يهم الفلسطينيين ويحقق اهدافهم، وبعد تفكير عميق قررت أن اتصل بأحد أركان الدولة لإبلاغه عما يجري. ورأيت أن التقي بالسيد سعيد بن مصطفى وزير الدولة للشؤون الخارجية والذي هو بمثابة نائب وزير الخارجية لأطلعه على ما يجري. فطلبت منه موعداً في بيته وزرته هناك وأبلغته بكل التفاصيل التي تجري بيننا وبين الإسرائيليين في أوسلو.
استمع الرجل بكل اهتمام وانتباه، وقال لي نحن مستعدون للدعم ولأي شيء تطلبونه مع احتفاظنا بهذا الأمر سراً. فقلت له: نحن ممتنون لكم وإذا سمحت لي أن أزوركم بين الفترة والأخرى لأطلعك على آخر التطورات.. فقال: بكل سرور.
وبالفعل استمر الاتصال بيننا حتى تم التوقيع المعلن فباركت تونس الاتفاق وأيدته.
هذا نموذج من الأخلاق العالية التي تعاملت فيها معنا تونس وكل رجالها وشعبها. لا يريدون منا أكثر من أن نعمل لقضيتنا وننجح في عملنا، وان نعيش على أرضهم بمنتهى الاستقرار والهدوء وتقديم كل ما يلزم من خدمات ومساعدات. والتغاضي الكامل عن كل أخطائنا وهفواتنا وخطايانا.
اقترب موعد العودة إلى أرض الوطن ورحنا نستعد لتلك اللحظات لهامة والتاريخية، هناك الكثيرون ممن هاجموا الاتفاق واستنكروه ورفضوه وهناك من رحب به واستعد وأعد نفسه للعودة. وهناك دول عربية رفضت الاتفاق، اما لأنها ترفض لمجرد الرفض، أو لأنها لم تكن تعلم به، أو لأنه لم يأت عن طريقها، أو كانت طرفاً فيه.
أما أميركا، فقد كانت في حيرة من أمرها، فهي لا تستطيع رفض السلام. ولكنها تريد أن يكون الاتفاق من خلالها وهناك قصة ذكرتها في مناسبات مختلفة ولا بأس من تكرارها هنا.
لم تكن أميركا تعرف عن مفاوضات أوسلو، أو أنها علمت ولكنها لم تأخذ ما علمته على محمل الجد، بل استهزأت به.
ولما أُعلن عن الاتفاق استيقنت أنه أمر جدي، وانه يجب أن تكون داخل اللعبة، وليس خارجها، لأنها باختصار شديد هي أميركا، ولا يجوز أن لا تعرف شيئاً يحدث في العالم، بل لا يجوز أن يحدث شيء في العالم بعيداً عن إرادتها.
اتصل دينيس روس بالدكتور أسامة الباز يسأله عما اذا كانت مصر تعلم بأوسلو، ولما أجاب الباز بالرفض، طلب روس أن يجد الباز حلاً لأميركا التي لا تعرف شيئاً عن الأمر، وهذا لا يجوز بحق سمعة أميركا. وطلب منه أن يسألني فيما إذا كنت أوافق على أن يقول الأميركان بان المفاوضات في أوسلو تمت على ورقة أميركية. ولما وافقت على ذلك أبدى روس سعادته وأعلن الخبر، وفوراً صدر عن الإدارة الأميركية دعوة لأصحاب العلاقة والكثير من دول العالم إلى حفل التوقيع على الاتفاق في واشنطن باعتبار أميركا راعية للاتفاق.
وهكذا وقعنا الاتفاق هناك، عدنا إلى فلسطين ولم ننقطع لحظة واحدة عن البلد، الذي أحببناه وعشقناه. كنا نشعر –وما زلنا –بارتباط غريب بهذا البلد وكأنه وطننا حيث عشنا فيه أجمل أيام العمر مع شعب يعشق الشعب الفلسطيني ويحترمه، وكثيرا ما كانت زياراتنا بدون سبب أو مبرر، وإنما نشعر أننا مشدودون إليه، ولدينا إحساس خفي بأننا لا نرغب في تركه أو مغادرته أو الابتعاد عنه.
بقي العديد من الفلسطينيين هناك ولا أنكر أنني احتفظت ببيتي فترة طويلة من الزمن، حيث إنني كنت أنام وأقيم فيه عندما أزور تونس.
وكنا في كل مرة نزورها نلتقي الرئيس زين العابدين بن علي وأركان الحكومة، ونتبادل الرأي والمشورة ونستمع إليهم ويستمعون إلينا، ونستعيد الذكريات الجميلة والمواقف المشرفة، ونتنسم هواءها العليل وطبيعتها الخلابة ونعيش ولو لأيام أو ساعات مع شعبها العظيم، صاحب الفضل الأكبر وفي 17/12/2010 حصل الزلزال ووصلت الكارثة إلى تونس باسم الربيع العربي، وبانتحار محمد البوعزيزي من ولاية سيدي بوزيد، هذا الانتحار الذي استغلته قوى الشر المتربصة بهذا البلد الوديع، وبدأ العنف في البلد وانتشر انتشار النار في الهشيم في كل أرجاء البلد. وتعرضت البلاد لموجة من العنف والإرهاب، حتى برز الباجي قائد السبسي، الذي ما لبث أن جمع الدولة العميقة التونسية تحت اسم "نداء تونس"، وحصل على الأغلبية، وأعاد الأمور إلى نصابها وأصبح رئيساً للجمهورية. وهكذا عادت تونس إلى أصولها.
لا شك أن السبسي أعاد لتونس بريقها وشخصيتها التي عرفناها منذ نشأت برئاسة الزعيم الحبيب بورقيبة، ومكانتها العربية والإقليمية والدولية، وأعاد لها بريقها السابق واحترامها وتقديرها بين جميع دول العالم.
خلال مسيرتنا الطويلة في تونس ومع تونس تعرفنا على الكثير من الشخصيات التي ساهمت في الحكم في هذا البلد. وكلهم تربوا على يدي الزعيم بورقيبة، وكل منهم لعب دوراً ما، صغر هذا الدور أو كبر، ولكنها جميعها ادوار هامة ساهمت في نهضة هذا البلد.
لا شك أن أولهم، بل وعلى رأسهم، الباجي قائد السبسي، الزعيم والقائد والصديق العزيز الذي اعتز بصداقته والقرب منه.
واذكر من هؤلاء الرجال العظام، فؤاد المبزع، محمود المصمودي، الباهي الادغم، الهادي نويره، محمد المزالي، رشيد صفر، زين العابدين بن علي، الهادي البكوش، حامد القروي، محمد الغنوشي، الحبيب الشطي، محمد الفيتوري، الحبيب بن يحى، الشاذلي القليبي، سعيد بن مصطفى، عبدالله القلال، المنجي الكعاب، وأسماء أخرى كثيرة لا تسعفنا الذاكرة، ونأسف لعدم ذكرهم، لأنهم كلهم قامات كبيرة وهامة. ولكن لا يمكن أن ننسى محمد الصباح، الأمين العام للحزب الدستوري الذي عرفناه عن قرب وتعاملنا معه بأريحية واحترام وحب، وقدم لنا مساعدات جمة. ونستطيع أن نقول إن كل فرد في الشعب التونسي هو رقم هام في هذه الدولة، وهو صديق حميم للشعب الفلسطيني، ومؤيد لنضاله وكفاحه.
ولعل من نوافل القول ان نذكر ونكرر في كل مناسبة ذكر السيدة الفاضلة الماجدة الوسيلة التي كانت لنا السند الكبير والداعم الأول، ليس كزوجة للزعيم وإنما كامرأة مناضلة وسياسية بارعة ودبلوماسية عظيمة وصديقة حميمة للشعب الفلسطيني.
لقد غادرنا تونس بأجسادنا وظلت أرواحنا متعلقة بها، رحم الله من رحلوا من زعمائها، ورحم الله الزعيم بورقيبة والزعيم الباجي قائد السبسي، واختتم هذا الحديث بما قاله المرحوم الشاعر الكبير المرحوم محمود درويش وهو يغادر تونس، وما قاله هو لسان حالنا جميعاً:
كيف نشفى من حب تونس
الذي يجري فينا مجرى النفس
لقد رأينا في تونس من الالفة
والحنان والسند السمح
ما لم نر في أي مكان آخر
لذلك نخرج منها
كما لم نخرج من أي مكان آخر
نقفز من حضنها الى موطئ القدم الاول
في ساحة الوطن الخلفية
بعدما تجلت لنا فيها
في البشر والشجر والحجر
صور أرواحنا المحلقة كعاملات النحل
على أزهار السياج البعيد
في هذا الوداع أحبكِ يا تونس
أكثر مما كنا نعرف
نرسّب في صمت الوداع الحزين
شفافية تجرح ونُصفّي كثافة مركزة
الى حد العتمة التي تحل بالعشاق
ما أجمل الأسرار الكامنة وراء الباب الموارب
وراء بابك
فهل نقول لك شكرا ؟!
لم أسمع عاشقين يقولان شكرا
ولكن شكرا لك لأنك انت من أنت
هل نسينا شيئا وراءنا؟!
نعم.. نسينا تلفت القلب
وتركنا فيك خير ما فينا..~
في يوم الجمهورية التونسية، يوم الجمعة 25/7/2019، أعلن في تونس عن وفاة الرئيس العظيم الباجي السبسي عن عمر يناهز الثانية والتسعين.
وقع علينا الخبر وقوع الصاعقة وفي نفس اللحظة كانت القيادة الفلسطينية في حالة اجتماع لبحث موضوع وقف العمل بالاتفاقات الموقعة مع الحكومة الإسرائيلية، لكننا بدأنا الاجتماع بإلقاء بيان للاعلان عن وفاة الرئيس السبسي، وقررنا اعلان وتنكيس العلم الفلسطيني الحداد لمدة ثلاثة أيام وفي نفس الوقت قررت مغادرة رام الله إلى تونس لحضور الجنازة ومراسم الدفن. وفي قصر قرطاج دعينا لإلقاء كلمة وداعية للرئيس، وبعدها قدمنا التعازي لعائلته، وسرنا في الجنازة، وقفلنا عائدين إلى ارض الوطن، وجاء في كملة الوداع هذه ما يلي:
بسم الله الرحمن الرحيم
(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي)
صدق الله العظيم
فخامة الرئيس،
أصحاب الجلالة والفخامة والسمو،
الحضور الكريم،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
جئنا اليوم من فلسطين لتقديم واجب العزاء احترامًا وتقديرًا للزعيم والمناضل والأخ والصديق الراحل فخامة الرئيس الباجي قائد السبسي، الذي فقدته الأمَّتان العربية والإسلامية، وفقدته فلسطين وتونس والإنسانية جمعاء؛ فهو الذي حمى تونس وحافظ على استقرارها وديمقراطيتها في أصعب الظروف، وهو كذلك خليفة الزعيم الكبير العظيم الحبيب بورقيبة، رائد الواقعية السياسية في تاريخنا المعاصر، وصاحب الفضل باستضافة تونس للفلسطينيين على أرضها.
وننتهز الفرصة لنحيي الشعب التونسي بقواه وأطيافه كافة. وإننا على ثقة بأن هذا