أزمة العقل السياسي الفلسطيني...!
نشر بتاريخ: 2025-02-09 الساعة: 16:22![](file/attachs/74577.png)
الكاتب: أكرم عطا الله
يفترض أن يبدأ الفلسطينيون مراجعاتهم السياسية والفكرية بعد ما حل بهم، تلك طبيعة الأشياء لمجتمعات تقف على محطاتها وتتأمل ذاتها لتقرر كي تستمر مستفيدة من تجربتها وأخطائها وإدارتها لذاتها.
فقد شاب العقل الفلسطيني في سنواته الأخيرة قدر من التبسيط في الصراع مع إسرائيل ليصل محطته الأكثر صعوبة منذ النكبة: كيف ولماذا ؟ تلك يفترض أن تكون مهمة مثقفي ومفكري هذا الشعب وهم كثر.
من الطبيعي في عصرنا الحديث كثورة فلسطينية أن تكون لديها مهمة واحدة وهي التخلص من الاحتلال بعمل ذكي ومتواصل، ولكن كانت مأساة الفعل الفلسطيني بمجمله تتلخص في الصراع بين استدعاء العقل وبين النقل، بين التقليد وبين الإبداع الذي يشتق من عمومية التجربة الثورية العالمية خصوصية الحالة الفلسطينية وشروط تحررها ... وقعنا في النقل وأبعد من ذلك ذهبنا نحو ميثولوجيا غيبية اتكأت على اعتقادات تبسيطية لصراع أكثر تعقيداً بل الأكثر تعقيداً في الصراعات التي شهدتها البشرية.
كان في محاولة تقليد الثورات ما يشبه مأزق الراهن الفلسطيني كاستدعاء تجارب الثورات الأخرى كالفيتنامية والجزائرية وغيرها دون أن ندقق بالفروقات، ما ينحي العقل جانباً لصالح نموذج جاهز كل ما هو مطلوب هو أن يتم تقليده فلسطينياً وانتهى الأمر، ولكن في الإخفاق ما يصيب بالإحباط ويعيد طرح تساؤلات وجودية بعد حصاد النتائج وهذا ما يحدث خاصة بعد استدعاء هزائم لا يحتملها الوضع الفلسطيني، ليس بسبب غياب الإرادة بل أحياناً يكون ذلك بسبب فائض الإرادة وغياب العقل.
لم يميز الفلسطينيون وخاصة الأيديولوجيين منهم تيار «الإسلام السياسي والذي حظي بمساحة كبيرة في عقوده الأخيرة في المجتمع الفلسطيني ومعه جزء من اليسار» كانوا أقرب لمدرسة النقل بفعل صرامة الأيديولوجيا. لم يميزوا بين التجارب، بين تجربة الاحتلال الإسرائيلي وبين تجارب الاحتلال الفرنسي والبريطاني والأميركي.
فبينما أن كل التجارب الإنسانية وتلك الدول الكبرى كانت تحتل الشعوب من أجل مصالحها طبقاً لفكرة «الهيمنة والاحتلال بعد الثورة الصناعية وفائض الإنتاج الذي تطلب وجود مواد خام وأسواق جديدة تستدعي الخروج خارجاً واحتلال الشعوب».
تلك الدول كانت تدافع عن مصالحها وحين ترتفع كلفة الخسارة بحسابات المصالح تطوي مستعمراتها وترحل، لكن إسرائيل لا تدافع عن مصالحها بل عن وجودها، هذا هو واقع العقل الإسرائيلي، لذا ومنذ بداية هذه الحرب اعتبروها حرباً وجودية.
وفوق هذا هل كان يمكن إزالة إسرائيل عسكرياً ؟ سؤال أدى لانقسام الحالة الفلسطينية بين من أجاب بتبسيط شديد بـ «نعم « وبين من أجاب بتشاؤم بـ «لا «.
لقد ثبت ما كان يقوله أبناء المدرسة الواقعية أو مدرسة العقل السياسي أن إزالة إسرائيل تحتاج إلى معجزة ليست قائمة وأنها جزء من العالم الذي يملك أسلحة الفناء ولن يقبل بإنهائها باعتبارها جزءاً منه.
وثبت ذلك منذ اللحظة الأولى للسابع من أكتوبر عندما حركت الولايات المتحدة غواصتها النووية وحاملات طائراتها وفتحت كل مصانع السلاح في الغرب لخدمة المجهود الحربي الإسرائيلي وحربها الوجودية كرسائل ردعية لإيران وحزب الله الذي سارع للإعلان أنه لا يفتح حرباً ضد إسرائيل بل يقوم بدور مساند فقط، فيما أعلنت إيران عدم دخولها الحرب منتقلة لدور الدفاع عن النفس وليس المهاجم كما كانت تخشى واشنطن.
كان ياسر عرفات ونايف حواتمة أكثرنا قراءة للتجارب، فهما ابنا مرحلة الحرب الباردة التي تجلت بعد الحرب العالمية وتوازنات القوة التي أفرزتها وتجربة ألمانيا.
فقد أدركا مبكراً استحالة القضاء على إسرائيل عسكرياً وأن الاستمرار بذلك يعني تجييش العالم ضد الفلسطيني وإبادة قضيته، لذا قدم حواتمة فكرة الحل المرحلي ودولة في حدود العام 67 يتجمع فيها الفلسطيني وهو برنامج مقبول على العالم ليلتقط عرفات المسألة إدراكاً منه أن إسرائيل ابنة العالم القوي ولن يقبل بإزالتها أو الانتصار عليها حتى.
عرف عرفات أن السلاح الفلسطيني مطلوب للقيام بدور عسكري معين في الصراع لمقارعة إسرائيل، وهو مطلوب للقيام بدور سياسي فالسلاح لن يقضي عليها سواء بسبب محدوديته أو بسبب الترسانة الكونية التي تقف خلفها.
وحدد عرفات دور السلاح إدراكاً من فهمه لموازين القوة والسياسة بمهمتين الأولى: الحفاظ من خلال إدامة الاشتباك على جذوة الصراع مشتعلاً بحده الممكن وعدم التعايش مع الاحتلال، والمهمة الثانية وهي الأبرز بدفع العالم تحت وقع الاشتباك للبحث عن حل سياسي لهذا الصراع المستعر بلا توقف وإن كان بحده الأدنى، على شكل عمليات هنا وهناك لا تنهك المجتمع الفلسطيني ولا ترفع مستوى النار حد التهديد الوجودي لإسرائيل لدرجة تدفعها إلى استدعاء كل ممكنات قوتها وهي كثيرة لإبادة الشعب وكسره.
التفكير سمة الشعوب الحية التي تبحث عن مستقبلها في زوايا التاريخ وهو الوصفة الوحيدة لبقائها.
لقد أخذت الفصائل على عاتقها مسؤولية إدارة هذا الشعب. أبعدت المفكرين والمثقفين بل مارست عليهم مكارثية بدائية واندفعت بما لديها من اعتقادات تبسيطية لتعطي هذه النتائج، فهل آن الأوان لمحاكمة العقل الفلسطيني أم سنستمر حتى نصبح هنود حمر التاريخ الجدد؟