*حول السياق الوطني*
نشر بتاريخ: 2020-09-08 الساعة: 13:00بقلم: وزير الثقافة الفلسطيني عاطف ابو سيف
تبدو الأجواء مهيأة بشكل معقول لإحداث قفزة في الملف الفلسطيني الشائك، وثمة تطورات وطنية وإقليمية تجعل التقدم في الكثير من القضايا العملاقة ممكناً. وأساس كل ذلك لا بد أن يكون الإدراك بأن الحالة الوطنية لا يمكن أن تظل عالقة بين مخالب الانقسام، وأن عليها أن تتجاوز الكثير من خلافات الماضي وآلام الاشتباك الداخلي من أجل النظر للمستقبل بطريقة أكثر اتزاناً. الفرصة المتاحة الآن قد لا تتوفر في المستقبل، وهناك مسؤولية كبيرة في توفير سبل النجاح لتحقيق تقدم حقيقي في ملف أرّق الحالة الوطنية بشكل مستمر طوال عقد ونصف العقد من الزمن تقريباً. وما يمكن أن يحصل اليوم قد يتعذر تحقيقه غداً.
ظل الانقسام منذ وقوعه القضية الأكثر إرهاقاً للحالة الوطنية، وشكّل التهديد الأكبر للمشروع الوطني، بل إنه أعاق تحقيق الكثير وكلف القضية الوطنية ضرائب باهظة. ومع ما رافق الانقسام من مشاهد بشعة وصور أساءت لصورة الكفاح الفلسطيني، فإنه خلق متاعب كثيرة جعلت حياة الناس أكثر صعوبة. صحيح أن الاحتلال يتحمل المسؤولية الكاملة عن عذاباتنا، وصحيح أنه سيظل التهديد الأبرز على حياتنا وعلى مستقبلنا، إلا أن استمرار الانقسام يمكّن الاحتلال من تنفيذ مشاريعه ومواصلة غرز أظافره في جسدنا بتكلفة أقل.
على مدار السنوات الماضية، ظل الخلاف الداخلي العقبة الأساسية أمام أي تقدم حقيقي في إنجاز الكثير من الأهداف، وفي القبض على الكثير من الفرص، بل إن الحالة الفلسطينية المنقسمة أضعفت المواقف الفلسطينية إقليمياً ودولياً، إلى جانب استغلال بعض القوى الإقليمية لهذا الانقسام من أجل تعزيز نفوذها في المنطقة على حساب مصالح الشعب الفلسطيني.
عانت القضية الوطنية الفلسطينية من استغلال فاضح من قبل بعض القوى العربية، لا من أجل مساعدة الشعب الفلسطيني في تحقيق أهدافه، بل من أجل تحقيق مكتسبات باهتة لهذه الدولة أو تلك في ظل تنافس إقليمي أضر بالحالة العربية بمجملها. ولكن كان الانقسام الفلسطيني يوفر فرصاً كبيرة لحالة الاستغلال تلك ويقدم لها هدايا مجانية.
وفي ظل الانشغال الفلسطيني، والانغماس في تفاصيل الانقسام المريرة، كانت القوى الإقليمية العربية بهدوء وخلسة تقترب من تل أبيب وتمد جسور محبة وتعاون على حساب مصالح الشعب العربي بأكمله، بما في ذلك المتضرر الأكبر الشعب الفلسطيني. هكذا لا يمكن أن نكون أبرياء من الحالة الكارثية التي وصلت لها الأوضاع العربية. وبقدر ما يجب أن نبدو مصدومين من التطبيع الإماراتي المهين والمذل للعرب وللإمارات، بقدر ما يجب أن نعترف بمساهمتنا ربما غير المقصودة بتردي الحالة العربية وتراجع مكانة قضيتنا العربية. لسنا أبرياء وهكذا فإن تصويب الخطأ في جزء كبير منه يقع علينا. إن عدم إدراكنا لمسؤوليتنا الجزئية عما يحدث لا يفعل إلا تشجيعه.
أيضاً ثمة انسداد في الأفق بحيث لا يمكن لأحد أن يزعم أنه يمضي قدماً في تحقيق أهدافه، ومن المؤكد أن التطلعات الوطنية ما زالت غير منجزة. فمن جهة فإن آفاق عملية التسوية مع الاحتلال لم تعد ممكنة في ظل عملية الضم و" صفقة القرن "، وفي ظل الرؤية الإسرائيلية بأنه لا حاجة للسلام مع الفلسطينيين طالما يمكن تحقيقه مع الدول العربية، ومع الوقت نجحت إسرائيل في تحقيق اختراقات كبيرة في الجبهة العربية. ولم يكن إعلان الإمارات إلا خطوة في طريق عبّدته واشنطن لتل أبيب منذ زمن وبدأ يؤتى ثماره. أيضاً ما بات مطروحاً أمامنا حتى لو تم العودة لعملية السلام أدنى بكثير من السقف المنخفض لتطلعاتنا، فإنه لم تعد ثمة فرص لإيجاد الدولة تحت هذا السقف.
من جهة أخرى، فإن المشروع المعارض أثبت أنه غير قادر على تحقيق برامجه، فقد تحولت دعاوي المقاومة إلى ضروريات للحفاظ على الوضع القائم في غزة . "نحن لا نقاتل إلا للدفاع عن أنفسنا" وترجمة هذا عبارات يتم تداولها من باب توازن الردع ومن باب القصف بالقصف وغير ذلك، وكأن من يقول ذلك يتجاهل أن الاحتلال أيضاً سرق يافا وحيفا. عموماً قد يكون هذا عن نشوء وعي جديد يقول: إن الأساس الحفاظ على وجودنا على هذه الأرض. وبالمجمل، فإن زمن الانقسام كان هدفه هو الحفاظ على الانقسام واستمراره، فلم يعد سوى القتال وصد العدوان من أجل ترتيبات لا علاقة لها بالمشروع التحرري الكبير، بل باستمرار العلاقة مع العدو.
وعليه، فإن مآلات الواقع الفلسطيني هي مسؤولية جماعية. انظروا كيف تحول العرب إلى وسطاء بيننا وبين الاحتلال يتوسطون لوقف التصعيد وللوصول إلى اتفاقيات تهدئة أو ترطيب الأجواء في عملية السلام المتعثرة. الآن لا يوجد لدى أحد ما يقوله، فالمستقبل الفلسطيني لم يعد فيه الكثير من النوافذ، كما أن خارطة الأعداء توسعت وبات بعض الإخوة يقفون بالسيوف مع العدو. لم يعد لنا إلا ترتيب بيتنا الداخلي على الأقل حتى نحافظ عليه من الانهيار. من هنا، فإن ثمة فرصة كبيرة لإحداث اختراق في جدار الانقسام الهش لو توفرت الإرادة الحقيقية. من المؤكد مع مراقبة ما يجري أن المياه تتحرك تحت الجسر، وأننا قد نكون أمام فرص تاريخية، ليس لنا إلا أن نتمنى ألا تضاف إلى قائمة الفرص الضائعة.
ختاماً، وفي كل ذلك يجب ترتيب الأولويات المنشودة بحيث لا نقع أيضاً ضحايا إعادة التجربة خلال الفترة الماضية. السؤال الأساس هو حول سؤال النضال الوطني. بمعنى ماذا نريد حقاً؟ وكيف سنحقق ذلك؟ وما هي الخطوط الحمر في علاقاتنا الداخلية؟ أظن أن الخطر أن ننزلق نحو التقاسم الذي حكم علاقاتنا سابقاً ومطالب البعض. أيضاً ضرورة الاتفاق حول ترتيبات البيت. وأي بيت؟ البيت الفلسطيني الحقيقي هو بيت الفلسطينيين الكبير منظمة التحرير الفلسطينية. إن أي شيء يتجاوز منظمة التحرير على قاعدة النضال المشترك سيكون استنساخاً لتجارب سابقة.